البوصلة القرآنية … بناءٌ للعقل يهدد المؤسسة الدينية

2009-07-09

قالوا عن الكتاب …
“كنت أقدّر أن هذا الكتاب سيغيّر شيئاً من أفكاري، إلا أنه لم يفعل ذلك فحسب. لقد غيّرت البوصلة طريقة تفكيري كلها”
طريف العتيق
الفكرة الرئيسية للكتاب:
وقد وردت في الصفحة 13 “ولكن عندما نجد أن الخطوط العريضة التي غرسها الخطاب القرآني في فترة التكوين الأولى، والتي كانت بمثابة حجر الأساس واللبنة الأولية لكل ما تلاها من فرائض وشرائع عندما نجد أن هذه الخطوط العريضة مفقودة بل معدومة [ومحاربة كما سنرى لاحقاً!!] في التفكير الديني التقليدي والشائع والمسيطر، فـإن الأمر لا يعود عادياً ولا بديهياً ولا حتى منطقياً”.
لذلك فإن مهمة الإبحار المختلف والمنطق الجديد ستكون بالغة الصعوبة بسبب “قداسة المؤسسة [الدينية] وعراقتها وقوتها المستمدة أساساً من احتمائها بالنصوص القرآنية والنبوية المقدسة وادعائها احتكار تأويلها لنفسها فقط”.
“إعتمد القرآن على استنهاض قيم وطرق تفكير قوامها استنهاض العقل وإعلان قيامته ، بلغة لا تصلح فقط لكل العصور، بل تُصلِح كل العصور … الفكر الإسلامي السائد تبنى تأويلات لبعض آيات القرآن الكريم تحارب العقل ولغته العقلانية التي كانت أساس الإعجاز القرآني، هذا الفكر وعناصره تربى عليه مئات الملايين من المسلمين اليوم معتبريه يمثل دينهم الحقيقي”.

فما هي هذه القيم أو الخطوط العريضة التي علينا احيائها في أنفسنا من جديد؟

أولاً: التساؤل (قيمة العقلانية) :
ونحن هنا نعتمد أولاً على الآيات من 74 وحتى 79 من سوة الأنعام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
إنه الحوار الذي يمثل تمرد جيل جديد على الأفكار التقليدية والمسلمات الإجتماعية البالية، والأب هنا هو رمز لكل السلطات والمؤسسات التي تكرس بقاء التقاليد والمسلمات والأعراف وتوفر لها الحماية والاستمرار، وهو -في الوقت نفسه- يمثل محاولة الاعتماد على العقل للخروج من هذه الحيرة وهذا الشك، إنها الليلة التي انتهت عندما أشرق العقل في داخله، إنه التساؤل الذي سرى مثل التيار الكهربائي، ليمنح الحياة والروح إلى العقل الأول، فبالشك وحده وصل إلى اليقين النهائي، وصل إلى طمأنينة القلب. هل وصلها بمزيد من التعبد والإستغفار؟ لا لقد وصلها بالشك والتساؤل.
إنه الشك الإيجابي والتساؤل الفعّال ذاك الذي يصير جزءاً من طبيعة تفكير المرء ومنهجه في الحياة. عندئذٍ العقيدة لا تذبل لأن التساؤل ينعشها، ولا تموت لأن الشك يبعثها من جديد.

أيضا عقيدة البعث ترسخ فكرة “السؤال الذي يطرح على الجميع”، بل وحتى خارج إطار البعث والقيامة نجد القرآن زاخراً جداً بالأسئلة التي يوجهها بقوة مدوية الى الجميع …

لكن المؤسسة الدينية التقليدية – التي تحتمي بالخطاب القرآني نفسه، ولكن بتأويل مختلف – عملت على تغييب بل وقمع وحتى قتل روح التساؤل المبثوثة عبر آيات ومشاهد الخطاب القرآني، واليوم أصبحت أكثر المقولات رسوخاً عن التساؤل هي مقولة (السؤال عنه بدعة) بدلا من قوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر) ويقف صلى الله عليه وسلم مرةً على المنبر ليقول: سلوني .. سلوني.

أيضا قيم التساؤل تتجلى في مبدأ (الشورى)، والشورى هي سلوك حضاري يجعل الأفراد متقبلين للرأي والرأي الآخر منفتحين على الآخر دونما شروط مع استعداد للقبول بكافة الأجوبة والإحتمالات، وهو مبني على قداسة الأسئلة والتساؤلات وهو سلوك إجتماعي ثم سياسي. “والله ما استشار قومٌ قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم ثم تلا وأمرهم شورى بينهم” [الأدب المفردالبخاري]، إنها الإشارة إلى المجتمع الذي تعود أفراده على الشورى، تدربوا عملياً على التساؤلات وقبول الأجوبة بل وقدسوا الأسئلة باعتبارها المحطة الإيمانية الأولى، مجتمع كهذا بأفراد كهؤلاء يمكن له أن يتحمل مسؤولية اختياره الشوروي. لقد قال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما أبداً.

ثم إنه لاشيء يثير الإهتمام إلى دور التساؤل -روحاً وعقيدة- في بناء الجيل الأول مثل حادثة صغيرة حفظتها لنا كتب الحديث والتاريخ:
قيل لابن عباس: أنّى أحببت هذا العلم؟ فقال: لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً.

ومن هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم تعقيباً على قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }، قال : نحن أحق الشك من إبراهيم . أما تفسير المؤسسة الدينية فإنه يرفض الشك والسؤال هنا ويحيل معنى الشك إلى مجموعة كبيرة ومعقدة من التأويلات، التي – حتى وان اختلفت- متفقة على أنه لا يوجد شك لا يوجد سؤال.

ثانياً: البحث عن الأسباب(قيمة العلم):
إذا كان التساؤل هو معول هدم للعالم القديم، فإن الخطاب القرآني لا يكتفي بركام المؤسسات والكيانات التي زلزلها التساؤل، بل يريد أن يبني عالماً جديداً على أسس مختلفة وبقيم مختلفة، وكما اعتمد الخطاب القرآني على المثال الإبراهيمي لتأصيل فكرة التساؤل داخل شخصية الفرد المسلم، اعتمد كذلك على قصة أخرى لتأصيل فكرة الأسباب والبحث عنها.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
ما هو سر قوة ذي القرنين؟ إنه ليس الجيوش الجرارة، أو عقيدة التضحية، أبداً، إنه البحث عن الأسباب أو اتباع الأسباب، والسبب (بإجماع الأقوال الواردة عن السلف في هذا الخصوص) هو (العلم)، إذن فالتمكين في الأرض هو العلم، العلم التطبيقي الذي ينفع الناس، بدليل:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
وهنا يجب أن نقف للحظة: فاستخدام الحديد لم يكن مجرد خبرة متراكمة توارثتها شعوب الحضارات القديمة، دون أن يكون ذلك علماً بالمعنى المتعارف عليه حالياً، هذا هو العلم الذي برعت فيه حضارة ذي القرنين: العلم الذي يستجيب أساساً لحاجات مجتمعه ويغيرها …
واتباع الأسباب تعبير دقيق يوحي بالغوص العميق في جوهر الأشياء بحثاً عن أسرارها ومكوناتها وخصائصها وطبائعها (وهذا يعني ضمناً الإعتراف بوجود خواص للمواد)!

هل تبدو هذه الخواص– والإقرار بها – بديهة لا فرار من الإعتراف بها؟
للأسف إن مايبدو بديهة نظرياً، كان مجالاً لنزاع طويل من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم في صدر الحضارة الإسلامية، وهو نزاع انتهى بنفي الطبائع والخواص بزعم أن إثباتها يؤدي إلى الشرك.

ولو دققنا النظر في الآيات التي يقدمها الخطاب القرآني وصفاً للطبيعة، لرأيناها عالماً من الأسباب والمسببات، من الغايات والسنن، فلكل شيء سبب ولكل شيء مسبب:
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6).
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
وهناك مئات ومئات الآيات التي تنبه وعي المسلم إلى ربط الأسباب بمسبباتها. إن الفهم الدقيق والحساس للسنن الإلهية في تيسير الأمور يورث الخشية، وهنا يصبح النظر في الكون وتأمله تعبداً حقيقياً وتقرباً لله عز وجل.

أيضا تجدر الإشارة إلى أن الخطاب القرآني يخلو تماماً من لفظة (العقل) كمصدر وأن لفظة العقل لا تأتي إلا فعلاً (نعم لقد خلق ليعمل) مثل تعقلون، يعقلون، عقلوه، نعقل …
وهذا يشير إلى أن الخطاب القرآني يعمل على تأصيل لفكرة جديدة، وتقديم مفهوم جديد وبنية جديدة للعقل.
(العقل) كمصدر في لغة العرب هو صفة أخلاقية تمنع صاحبها من الأهواء والمهالك.
أما استخدام القرآن لـ (فعل العقل) فهو يرد ضمن الإشارات الطبيعية وربط الأسباب بالمسببات، إذن فالعقل بالإستخدام القرآني هو أداة ربط (عقل) بين الظواهر الطبيعية والغايات منها وبين علاقتها بالإنسان كجزء من المجتمع البشري
إذن فالعقل القرآني هو ذلك العقل الذي يرتكز على السببية ويتمسك بها جوهراً للنظر إلى الكون وظواهره وعلاقاته.

وأكثر مجال ينطلق فيه العقل القرآني بالبحث عن الأسباب هو المجال الحضاري المدني المتعلق بسقوط الحضارات وقيامها، والعلاقة اللصيقة للقيام والسقوط بالقيم الإجتماعية والإقتصادية والسنن الإلهية المتجسمة في مجموعة عوامل مادية واجتماعية.
والأمثلة كثيرة جدا، والقرآن مليئ بقصص نهوض وسقوط الحضارات وأسباب ذلك.

والخطاب القرأني الذي حث على متابعة الأسباب في هذا الكون الفسيح، حث كذلك على سبر أغوار ذلك الكون الآخر، المجهول، واستكشاف مجاهله وأسراره، وذلك الكون الآخر المجهول هو : الإنسان
والآيات التي تتحدث عن النفس البشرية، تقواها وفجورها، خبثها وخيرها، أكثر من أن تحصى كذلك وذلك لأن تقنية السلوك البشري وفهمه أساس مرتبط بشكل مباشر (بالتغيير) الإجتماعي الذي هو مرتبط حتى بالسنن الإلهية التي تدور حولها مجريات الأمور.

أما المؤسسة الدينية فليس لها رأي آخر وحسب، بل لها كلام وعقيدة مضادة بخصوص ما أوردناه منذ قليل، ومن الأهمية بمكان عرض كلامها والرد عليه، ولكن المقام لا يتسع.
فمثلا المؤسسة (على سبيل المثال) نفت وجود أن يكون في الكون شيء سبّب شيئاً آخر، وقالت بأن الفاعل الحقيقي في كل ما حولنا هو الله، ولا يوجد أسباب ولا مسببات لها!!!

يتبع إن شاء الله تعالى …


comments powered by Disqus