الظروف، ما لها، وما عليها

2014-12-06

أفكّر هذه الأيام بالظروف أكثر من أي وقت مضى، ما يرتبط بها، وما ينجم عنها، كتبتُ نصًا شخصيًا مطولًا (ملأ ثماني صفحات)، في محاولة لترتيب أفكاري وتنظيمها، وهي العادة التي أحبّ أن أمارسها دومًا عندما أختلي بنفسي في عزلات نهاية العام.
إليكم الفقرات التي تصلح للنشر هنا ^_^

رزمة كاملة

هذا أسلوب في التفكير، أن ننظر إلى الأمور دومًا على أنها جزء من سياق كامل.
دعونا نأخذ صفة يمتدحها الآباء خصوصا، الطاعة، أن يكون ابنهم مطيعا لهم، ينصت لكلامهم، وينفذ رغباتهم، إنهم يعتبرون إبنا كهذا حلما مثاليا لا يبغون غيره في هذه الحياة الدنيا!
أهلي يمدحون فلانًا من الناس، أنه يسمع كلام والدته، ويطيعها فيما تريد، ولا يرفض لها طلبًا، اليوم يذمونه بشدة لأنه تصرف بشكل غير لائق، رغم أن تصرفه هذا كان طاعة لوالدته!

إنها الصفة عينها، التي كانوا يمتدحونها هناك، يذمونها هنا، الصفات والشخصيات لا تأتي إلا رزمة كاملة، كان عليهم أن يدركوا منذ البداية أن الصفات كل الصفات تأتي في سياق كامل.
الصفة نفسها التي تحبها في فلان في سياقات معينة، ستعود وتشكو منها في سياقات أخرى، كل صفة تأتي بجوانب جيدة وأخرى سيئة، عندما نطلب من شخص أن يغيّر شيئا من صفاته السلبية، ففي الحقيقة هذا سيؤثر على سلوكيات إيجابية أخرى لديه.
قد ترغب في علاقة عاطفية أشد الرغبة، ترى فيها الحب والحنان الذي تفتقده، والجنس الذي تحتاج إليه، بعد أن تدخل في هذه العلاقة ستبدأ بالشكوى من متطلباتها وجوانبها الأخرى التي لم تكن تراها عندما كنت جزءا خارجا عنها، وهذا لأن وعيك كان ناقصا منذ البداية.

كل وضع ترغب فيه لديه جوانب سلبية أخرى، وكل وضع تكرهه لديه جوانب إيجابية أخرى، فعندما تنتقل لما تحب تذكر انك ستحصل على بعض المتاعب، وعندما تتخلص مما لا تحب تذكر انك ستفقد بعض الجوانب الجيدة.
هل هذا يعني عدم جدوى تغيير الصفات والسلوكيات والبيئات والظروف؟
بالتأكيد لا، لأن هذه الصفات والسلوكيات والبيئات والظروف نادرا ما تقتسم نسبا متساوية من المحاسن والمساوئ، ثم هناك المحاسن التي تهمك، والتي لا تبالي معها ببعض مساوئها، فعندما يكون خيارك واعيا ستحصل على أكبر مقدار من المتع المهمة مقابل أقل قدر من المنغصات غير المهمة.

إذًا:

– الحصول على بعض السلبيات من الظروف والصفات والأشخاص التي تحب لا يجب أن يكون شيئا غريبا، إنه أمر طبيعي.
– الحصول على إيجابيات مما تكره أيضا أمر طبيعي.
– في الظروف التي لا يمكنك تغييرها حاول أن تعيد التفكير في النقطتين السابقتين.
– في الظروف التي تسعى لتغييرها فكر مليا بأسلوب الرزمة الكاملة، تفقد الضفتين في كلتا الحالتين، ليكون قرارك مبنيا على وعي، حينئذ ستكون مرحبا ببعض السلبيات التي ستقبل عليها من الوضع الذي تحب، وتكون مطمئنا لفقدانك بعض الإيجابيات في الوضع القديم الذي تنوي الرحيل منه.

تأثير الظروف

هناك مبالغة عادة في دور الظروف على حياة الإنسان، هذه المبالغة إما أن تتخذ طابع الإفراط أو التفريط، لنسأل مثلا ما هو تأثير المال على سعادة الإنسان؟ هل يمكن للمال أن يجعل الإنسان سعيدًا؟
هنا سينقسم الناس إلى طرفين، الأول يقول بأن المال هو كل شيء، وهو الذي يجلب السعادة للإنسان ويمكنه من تحقيق ما يريد، هو عصب الحياة. الفريق الثاني سيتحدث عن أولئك الفقراء السعداء الذين يملؤوهم الرضا والسرور تجاه حياتهم، ويعيشون بحب وحبور، وسيطعن هذا الفريق بالمذهب الأول، متحدثا عن مستويات المعيشة الخيالية في الدول الغربية وانتشار الاكتئاب والانتحار هناك في نفس الوقت، السويد عادة ما تضرب كمثال.

في 2011 نشرت جالوب* نتائج دراسة قامت بها على155 دولة، بين أعوام 2005-2009، تتحدث الدراسة عن العلاقة بين مستوى الدخل والسعادة، تقول النتائج:
– أسعد الدول: الدنمارك، فنلندا، النمسا، السويد..
– أتعس الدول: كمبوديا، بروندي، توجو
وهذا منطقي، من لا يملك قوت يومه، ويعاني أطفاله من المرض بينما لا يستطيع التكلف بتكاليف الصحة، ويُهدد بطرده من المسكن لأنه يتأخر في دفع الإيجار كيف سيكون سعيدًا؟

الفقر يسبب التعاسة، لكن هل الثراء يسبب السعادة؟

دراسة أخرى قام بها 22 عالما وجدوا أن الأشخاص الذين ربحوا جائزة اليانصيب الكبرى، عادوا لمستوياتهم المألوفة من السعادة بعد فترة من الوقت: المال الكبير لن يعني سعادة دائمة.
العتبة، مفهوم العتبة يوضح ما أريد قوله هنا، وهي الدراسة التي قام دانيال كانيمان عام 2009، لدراسة مدى تأثير المال على سعادة الأشخاص ووجد ما يلي:
– قلة المال لا تسبب التعاسة بحد ذاتها، لكن ما يترتب على الفقر من مشاكل.
– كلما ارتفع دخل الشخص تزداد سعادته
– تتوقف هذه العلاقة الخطية بين زيادة الدخل وارتفاع السعادة عند عتبة محددة (قدرتها الدراسة بمبلغ ستة آلاف دولار للحياة الأمريكية).
– الملخص، بأن المال يلعب دورًا حاسما في تشكيل ظروف الحد الأدنى (سأتحدث عنها بعد قليل) والتي لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة جيدة بدونها، لكن بعد أن يحقق المال ذلك، ستضعف قدرته على تحقيق المزيد من الحياة الطيبة الهانئة.

برناردشو**:**

عندما أقرأ قول برناردشو بأن الناجحون هم أشخاص يبحثون عن ظروف مواتية، وإن لم يجدوها صنعوها، فهذا يعني بكل الأحوال** أهمية الظروف على حياة الإنسان****!
**هذه نقطة لا أدري لمَ لم أدركها بالأسلوب الصحيح من قبل، الناجح ليس شخص لا تهمه الظروف، ويمكنه أن يكون ناجحا وسعيدا بغض النظر عن الظروف التي تحيط به، فالنجاح والسعادة هما الظروف الناجحة والسعيدة، لكن الإنسان الإيجابي هو الشخص الذي لا ينظر إلى ظروفه الحالية فيتأسى عليها، بل يؤمن بانه قادر على تغييرها، يعمل على ذلك وينجح به، فتغدوا حياته جميلة، ٍسعيدة وناجحة.
الفارق بين الإيجابي والسلبي، ليس بأن الأول لا تؤثر عليه الظروف والثاني يعيش حياته رهنا لظروفه، بل الفارق أن الأول يصنع الظروف التي يريد، بينما الثاني يشكو بأنه لم يخلق ولم يكتب له القدر الظروف التي يحب.
مثال :وجود أشخاص سلبيين في حياتي لا يلزمني بالحفاظ على سعادتي رغما عنهم، لكنه يلزمني بتركهم والبحث عن أشخاص إيجابيين.

الظروف الأساسية

يمكن للإنسان إذًا أن يتحرر من التبعية لظروفه، لكن فقط إذا حقق ظروف الحد الأدنى للحياة الإنسانية:

1 – الحرية، والأمان(يقول مارتن سيلجمان، إن أكثر ما يحدد سعادة الإنسان عيشه في دولة ديمقراطية، وهو يعني الحرية السياسية والاجتماعية، الإحساس العام للإنسان بأنه سيد حياته وحر في اتخاذه القرارات الخاصة بحياته هو، وفي دراسة أخرى له أكد أن الإنسان القادر على اتخاذ القرار الذي يرغب به يتمتع بصحة نفسية وسعادة أكبر من ذلك المجبر)

2- الطعام، الشراب، السكن، الدواء  (هذا يحتاج إلى العمل الجيد والمال)

3 – الحب، الرحمة، المودة، السكينة، الجنس (وهذا يأتي من اقتسام الحياة مع الشريك/ة)

4- المحيط الإيجابي(الأصدقاء الداعمين الإيجابين، بيئة من الحب والاحترام والتقدير)

5- التواصل مع الجوهر الكوني عن طريق التأمل، الحبّ، الجنس، الصمت (التدين، إن صح التعبير).

——

  • الإحصائيات والدراسات هنا مقتبسة من كتاب “أن تكون نفسك” للكاتب عادل صادق.

comments powered by Disqus