الشكوى والتذمر ... سمة غالبة على المجتمع

2008-09-10

بسم الله الرحمن الرحيم:

الإنتقاد، التبرم، الشكوى، التذمر، السخط … حالات نفسية وطباع خلقية سيئة سوداوية … سأتحدث اليوم ،بشيء من الإسهاب عن هذا الموضوع، إذا لم يكن لديك وقت كافٍ لقراءة الموضوع او لم تكن بحالة مزاجية جيدة! فأفضّل أن تحتفظ بنسخة على جهازك وتقوم بقرائتها في وقت لاحق مناسب …

حقيقة ساطعة … أحضر ورقة وقلم:

في حياة كلٍّ منا دائرتين، دائرة المشاكل أو الهموم، ودائرة الحلول …

&& دائرة المشاكل(أو لربما الأصح المشكلات): هي الأمور التي لا يمكننا أن نغيرها، أي مهما تكلمنا وشكونا وتذمرنا فإن شيئا من ذلك لن يتغير …

مثلاُ: الزحام اليومي في الطرقات، الطقس السيء، الأمور التي وقعت ..

لدي صديق كلما سرت معه في شارع من شوارع حمص الحبيبة، بدأ بالنقد؛ انظر إلى أحجار الرصيف، كيف أنها لم تسقم على خط واحد، انظر إلى هذه الشجرة كانوا يجب أن يقلموها، لا حول ولا قوة إلا بالله لماذا لم يضعوا هنا أربع بلاطات سوداء ثم واحدة حمراء مثل الجانب المقابل … وهكذا ، كلما مررنا بخطأ فني (ولو طفيف) يبدأ بالإنتقاد ولوم العمال والبلدية ونقد خطة السير العامة ووو…

بإعتقادك هل ترى أنّ هذا أمرا طيباً، هل ترى أنني ساكون مرتاحاً عند كل تعليق، دائما أسأل نفسي، متى سينتهي من هذا التعليق …

منذ البداية إليك قاعدة مهمة [ لا تنتقد عملاً لم تقم بممارسته من قبل ] فليس الحق لك في أن تنتقده …

لربما أجلس مع أحدهم في السيارة، الطريق بأكمله وهو يشكو لي زحام الطريق، وأن الطرق لم تزفت كما يجب، ويا أخي ليش “برا” (يقصد دول أوروبا وأمريكا أو حتى دول الخليج) بيشتغلوا متل العالم والناس وعنا لاء… هل تعتقد أنني سأفضل أن أركب معه في سيارته مرة أخرى، ألن تضيق مثلي بهذه الكلمات المزعجة اللائمة …

&& دائرة الحلول : هي الأمور التي بإمكاننا نحن أن نغيرها …

أحلم بأن أركب مع سائق سيارة (خاصة او عامة) فيقول لي : انظر إلى زحام هذه المدينة … انظر إلى هذا النشاط … انها مدينة نشيطة فعلاً … لريثما نصل سأسمعك إلى الشريط الفلاني ..

ويضع شريط قرآن بصوت عذب لأحد القراء، أو شيئا للعفاسي وغيره، أو شريطا للدكتور الفقي .. من تلك الأشرطة التي تفعمك حيوية ونشاطا وتفائلا .. أو محاضرة للدكتور الكلاب …

هل لاحظت : ذات المشكلة … الزحام …. الأول تبرم وشكى وسخط (وصلى الله على من قال من سخط فله السخط ) وتضايق ووصل إلى العمل محمل بالمشاعر السلبية، والآخر تفائل من الزحام وأمتعنا وأفادنا بشريط!!

ما الفرق !! الأول تحدث في دائرة الهموم فقط، الأخر ذكر المشكلة وتحدث وعمل في دائرة الحلول.

الآن إليكالحقيقة : 80% من أحاديثنا تقع في دائرة المشاكل والهموم …

لا تشك؛ أحضر حالاً ورقة وقلماً وانخرط في نشاطك اليومي المعتاد، كلما دار حديث أو نقاش مع الأصدقاء أو الأسرة .. في الماسنجر أو الشارع … دقق … إلى أي الدائريتن يمكن أن نصنف هذا الكلام … ارسم دائرين … كل نقاش سلبي يدور ضع خطا في الدائرة الأولى ، كل نقاش إيجابي يتم ضع خطا في الدائرة الثانية، بعد أربعٍ وعشرين ساعة و بعملية حسابية بسيطة اجمع الخطوط وخذ النسب … وانظر بأم عينك!!

80% من أحاديثنا -كما رأينا – تدور في دائرة الهموم والمشاكل …

طبعاً يضاف إلى هذه الدائرة كل أنواع الأحاديث السلبية الأخرى، الغيبة والنميمة والكلام فيما لا يعني، كل ذلك يجعل ثمرة حديثنا مشاعر سلبية وطاقة منخفضة الناتجة عن كثرة السيئات وعدم رضا رب العالمين عن ذلك ..

وقفة:

وفي القصة أن موسى عليه السلام تَبَرَّمَ وقتاً بكثرة ما كان يُسْأل ، فأوحى الله في ليلة واحدة إلى ألف نبي من بني إسرائيل فأصبحوا رُسلاً ، وتفرَّقَ الناسُ عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام ، فضاق قلبُ موسى وقال : يا رب ، إني لا أطيق ذلك! فقبض اللَهُ أرواحهم في ذلك اليوم .

المصدر : تفسير القشيري.

( لا تقل لي اسرائيليات خذ العبرة).

ارضا بالقضاء والقدر تجد الراحة:

مما يولد الشكوى والتذمر وربما السخط، عدم الرضا بقضاء الله وقدره .. وقعت كأس الماء وانكسرت .. كان يمكنك أن تكون أكثر حرصا، كذلك في المرة القادمة، أما الآن فلا تنبس ببنت شفة وتوجه نقداً أو لوماً لأحد، لأن القضاء قد حل، كن راضياً.

إذا لم يقم زَيد من الناس بالقيام بواجبه كما ينبغي، فسامحه وأطلق سراح الغضب ولا تتبرم منه، إليك القاعدة الثانية :

[ لا ينبغي لرجل أن يمتدح أو يذم على عمل يؤديه، لأننا جميعا مسخرون في أيدي الظروف والأقدار والبيئة والتعليم والعادات المكتسبة والوراثة التي تطبع التاس بطابعهم الحاضر وتلصق بهم هذا الطابع إلى الأبد ].

عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه : جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ٬ كم أعفو عن الخادم؟ قال ٬ كل يوم سبعين مرة، وفى رواية أن رجلا أتى رسول الله فقال له: إن خادمي يسىء ويظلم ٬ أفأضربه؟ قال: تعفو عنه كل يوم وليلة سبعين مرة.

والمسيح عليه السلام علّم أتباعه “العفو سبعين مرة سبع مرات”.

وقفة:

يقول أنس بن مالك : { خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما قال في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعل هذا ؟ }

حتى التوافه :

القميص غير مكوي جيدا، ملح الطعام قليل، الحذاء غير نظيف…

حتى التوافه نفتح لها ملفات، ولطالما وصلني نبأ شجار بين زوجين لأن ملح الطعام قليل في الأكلة، أو أن القميص لم يكوى جيداً ..

حتى على التوافه ربما ننتقد ونتذمر …

عجباً عجب، هذا لأنه لا يوجد قضية كبرى تشغلنا …

لا تنسى القاعدة الثالثة [ الحياة أقصر من أن نقصرها ]

بني اسرائيل والتذمر:

من سمات بني إسرائيل التي يجب أن نلاحظها عند قرائتنا للقرآن التذمر والتبرم، تأمل معي … بني اسرائيل يأكلون المن والسلوى، فيتذمرون من ذلك!!! ويشكون إلى موسى أنهم لن يقدروا على طعام واحد، نبي الله موسى عليه السلام تعجب من طلبهم فإنظر بِمَ ختمت الآية :

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }البقرة61

أبناء يعقوب -اسرائيل- عليه السلام، اقرأوا في مطلع سورة يوسف، كيف ضاقوا ذرعاً بأخيهم وتذمروا من وضعهم وانتقادهم لأبيهم لأنه -عليه السلام- يحبه(أي ليوسف) أكثر منهم:

{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يوسف8

حتى بعد أن تخلصوا من يوسف عليه السلام، انظر كيف تحدثوا مع أبيهم بلهجة كلها تذمر وتبرم، فقط لأنه عاد ليذكر يوسف عليه السلام مرة أخرى :

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}يوسف85

مواقف أخرى كثيرة، تتحدث عن بني اسرائيل ومواقف تبرمهم وسخطهم حتى من أنبياء الله فقتلوهم!!

إقرأ الآيات التالية :

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} الأعراف

ولنقرأ بعض ما كتب الأستاذ سيد قطب في تفسير هذه الآيات:

وإن الأرض لله . وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها . والله يورثها من يشاء من عباده – وفق سنته وحكمته … فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها! … ولكن إسرائيل هي إسرائيل!

{ قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } :

إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك . وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية!” أ.هـ

وقفة:

حتى إذا جرى لك أذىً من الخلق، هل ستضيق ذرعا بذلك، وتشكو وتسخط .. عليك يا صاحبي أن تفرح!! إقرأ لهذه الحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري؛ شارحا لك سبب أن يجري الله الأذى على أيدي خلقه:

[إنَّما أجْرى الأذى عَلى أيْديهِمْ كَيْ لا تَكونَ ساكنِاً إلَيْهِمْ. أرادَ أنْ يُزْعِجَكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتى لا يَشْغَلَكَ عَنْهُ شَيْءٌ.]

كيف لا تفرح والله يريد أن لا يشغلك شيئا عنه!!!

مكمن المشكلة:

افتح ذهنك لأؤكد لك حقيقة أرجوا أن تكون قد وقفت عليها من قبل:

[كل أمراض المؤمنين بسبب ضعف التوحيد]

التوحيد ماذا يعني؟ ألا ترى مع الله أحد، أن ترى أن يد الله تعمل وحدها.

الموحد لا يرى مع الله أحدا ..

لهذا قال ابن عطاء الله في حكمته السابقة “إنما أجرى -أي الله- الأذى على أيديهم”

إنه نبّهك إلى أن أحداً من الخلق لم يؤذيك … الله هو الذي أجرى الأذى على يدي الخلق ولذلك حكمة باهرة “حتى لا يشغلك عنه شيء”. فكيف تضيق ذرعا بالبشر وتشكوهم وتتذمر منهم.

كيف تتذمر من حالة الطقس السيئة وأنت متيقن (وتشعر بهذا اليقين يهيمن على كيانك) أن الله هو من أراد ذلك …

خذ نفساً عميقاً ولنقرأ معاً الكلام التالي من تفسير القشيري:

“قوله جلّ ذكره : { وَفِى الأَرْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } .

كما أَنَّ الأرضَ تحمل كلَّ شيء فكذلك المؤمن يتحمَّل كلَّ أحد .

ومَنْ استثقل أحداً أو تبرَّمَ برؤية أحدٍ فلِغَيْبته عن الحقيقة ، ولمطالعته الخَلْقَ بعين التفرقة – وأهلُ الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة .

ومن الآيات التي في الأرض أنها يُلْقَى عليها كلُّ قذارةٍ وقمامة – ومع ذلك تُنْبِتُ كلَّ زَهْرٍ ونَوْرٍ . . . كذلك المؤمن يتشرب كلَّ ما يُسْقَى من الجفاء ، ولا يترشح إلاَّ بكل خُلُقٍ عَلِيّ وشيمةٍ زكيَّة .

ومن الآيات التي في الأرضِ أنّ ما كان منها سبخاً يُتْرَكُ ولا يُعَمَّر لأنه لا يحتمل العمارة- كذلك الذي لا إيمانَ له يُهْمَل ، فمقابلته بهذه الصفة كإلقاء البذر في الأرض السبخة” أ.هــ بتصرف بسيط..

طبعاً -والحمد لله- أنت وأنا وكلنا موحدون نشهد أن لا إله إلا الله … ولكن علينا أن نقوي التوحيد ونحققه ..

” التوحيد أيها الأخوة له ثمار يانعة أحد هذه الثمار أنه يعطيك الحرية.أحد هذه الثمار الأمن، الإنسان بالتوحيد يرزق الحكمة،احدى ثمار التوحيد الشجاعة، التوحيد معرفة بالله كاملة.

الموحد جعل الهموم هما واحدا .. فكفاه الله همومه كلها الموحد عمل لجهة واحدة .. كفاه الله الجهات كلها. لمجرد أن تتوهم أن مصيرك بيد فلان أو أن رزقك بيده أو أن العطاء بيده والمنع بيده هذا شرك خفي، لذلك أيها الأخوة التوحيد هو صلب الدين” أ.هــ من محاضرة (ما تعلمت العبيد افضل من التوحيد) للدكتور النابلسي على قناة الرسالة.

هذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، عندما سئل عن الإحسان ..

توصيات الحلول … أبشر:

كن واسع الصدر، منشرح البال، لين العريكة، سمح العود… وخذ الأمور بالملاينة والمياسرة والمسامحة والمساهلة والإغماض والترخيص … تعيش -والله- عيشة هنية طيبة ..

قوِّ توحيدك (واسمعي يا نفس):

التفكر بآيات الله طريق إلى التوحيد،التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله وأوسع باب ندخل منه على الله…

على المؤمن أن يعبد الله كأنه يراه … و لا سبيل لتحقيق الإحسان سوى الإكثار من ذكر الله وتذكره، والإكثار من مراقبة الله والتنبه الدائم إلى مراقبة الله للعبد.. وخير سبيل إلى هذا التذكر الدائم، والوقوف المستمر تحت مظلة المراقبة الإلهية، ربط النعم بالمنعم، بحيث كلما وفدت إليه نعمة تذكر الإله الذي تفضل بها عليه….

إقرأ في الكتب التي تقو توحيد المسلم واسئل عنها، وانصحك بــ(الحكم العطائية) وشرحها للدكتور البوطي.

إقرأ (قوة التحكم في الذات) للدكتور إبراهيم الفقي، (صناعة الذات) للدكتور مريد الكلاب، (كيف تكسب الناس وتؤثر في الأصدقاء) + (دع القلق وإبدأ الحياة) والكتابان لديل كارنيجي.

راقب نفسك في تطبيقك لهذه النصح وحاسب نفسك عند التقصير، وكافئها عندما تكون كما يجب ان تكون


comments powered by Disqus