مفاهيم تطوير الذات .. والإشكال القائم

2009-04-10

بسم الله الرحمن الرحيم:

الثقة بالنفس – الرضا عن النفس – حب النفس – تقدير الذات ..
دخلت هذه المصطلحات – واخوتها – إلى ثقافتنا مع موجة كتب تطوير الذات، ومع إنتشار فن البرمجة اللغوية العصبية، وشيوع دورات التدريب هنا وهناك، ولقد عمَّ استخدامها على نطاق واسع جداً ..
ماذا عن أدبياتنا الإسلامية؟
لم أطلع على شيء من هذه المصطلحات في كتبنا الدينية، لا عن طريق القراءة ولا عن طريق البحث، ولكنني عثرت على ذكر نقيضها !!
تعال لنتصفح معاً (مدارج السالكين) أو (إحياء علوم الدين)، (الرسالة القشيرية) ومعظم كتب السلوك والتصوف، سنجد المجموعة التالية:
الثقة بالله – عدم الرضا عن النفس – حب الشهوات – العجب – محاسبة النفس ..
ففي مقابل حديث الفريق الأول عن (قدرة الإنسان اللامحدودة وامكانياته الخلاقة) ستجد الفريق الآخر يتحدث عن (افتقار المؤمن لله واظهار عجزه وضعفه وذله) … الأول سيقول لك (أنت معجزة) والثاني ستجد لديه (إليك أشكو ضعف قوتي) .. الأول سيهمس لك بقوة (أنت قادر أنت تستطيع) والثاني سيذكرك (وخلق الإنسان ضعيفا) …
اطلع على هذا المقال حتى تدرك أن هناك الكثير والكثير من الناس يعيشون حالة صامتة من الحيرة بين الفريقين (كنت أحدهم، ماذا عنك؟) .. في المقالة السابقة ظنت المدونة (مع احترامي الشديد لها واعجابي بمواضيعها) أن الثقة بالنفس تعني “تقديس الذات”، هي لم تقلها، لكن هذه الفكرة كانت مزروعة في كيانها، كانت تظن أن الثقة بالنفس تعني إعلاء الذات إلى شأو بعيد، فغدت لا تعلّق أرادتها على مشئية الله (لقد قالتها) وابتعدت عن الدعاء لأنها ظنت أنها قادرة على القيام بما تريده دون مساعدة أحد(اعترفت بذلك)، وأليست هي تثق بنفسها؟ فلما الدعاء !!
ولكن حتى عندما استفاقت وعادت بفضل الله الى رشدها ظلمت “الثقة بالنفس” ومعها مصطلحات أخرى ..
دعنا نتذكر أن عقيدتنا تقول :

  • الإنسان لا يملك طاقة أو قدرة ذاتية، وقدرته يستمدها من قدرة الله عز وجل لحظة بلحظة.
    ودعنا نتفق على:
  • أننا كثيرا ما يكون اختلافنا دائرا حول المصطلح وليس حول المعنى الذي يحمله.(هنا المشكل)
    الإمام الغزالي يتحدث:
    كتب الإمام الغزالي في إحياءه العظيم في أول ربع المهلكات، كلاماً ذهبياً ، فلنقرأ بتركيز:
    فصل (بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل وما هو المراد بهذه الأسامي):
    “اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الابواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة.ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا”
    ثم قال رحمه الله في شرحه للفظ (النفس) ما يلي:
    “اللفظ الثالث: النفس، وهو أيضاً بين معانٍ، ويتعلق بغرضنا منه معنيان: أحدهما أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التوصف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام { أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك } .المعنى الثاني هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها”
    تعال معي حتى نرى كيف أن جوهر المعاني التالية (الثقة بالنفس،الرضا عن النفس،تقدير الذات،حب الذات) نتفق عليها:
    الثقة بالنفس:
    أن تثق بنفسك يعني أن تثق بما قد زودك الله عز وجل به، أن تثق بالإمكانات والهبات التي أودعها الله في كيانك والتي هي أساس التكليف.
    عندما قال الله (إني جاعل في الأرض خليفة) لم يقل “خليفة وأتباع”، بمعنى أن كل فرد منا مطلوب منه شرعاً أن يحقق خلافة الله في الارض، ولتحقيق هذه الخلافة زودنا الله بكل ما نحتاجه من قدرات وامكانات .. أن تثق بنفسك يعني ان تثق بوجود هذه الامكانات (التي تحتاج لأن تفجرها)، يعني أن تثق بـ (ما صنعه الله ليكون معجزة) وهو أنت وأنا وهو وهي والجميع وكل (النوع الإنسان)، أن تقول (لا أقدر) (لا أستطيع) فهذا يعني أنك لا تثق بنفسك أي لا تثق بصنعة الله .. لذلك فإن الثقة الكاملة بالله عز وجل يستتبعها ثقة بصنعة الله وثقة بإبداع الله وقدرته وأنت هي هذه الصنعة المبدعة المعجزة .. فكيف لا تثق بأنك تملك من الامكانات كل ما تريد.
    دعونا من مصطلح (الثقة بالنفس)، فالنركّز أكثر على (المعنى)، ألا تشعر بهذا المعنى في أعماق قلبك وعقلك؟ ألا تثق بالله؟ إذا أفلا تثق بإبداع الله وصنعته ؟؟ إذا أفلا يعني هذا أن تثق بنفسك ؟؟؟
    (الله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)
    عندما كنت نطفة تتمثل مهمتك في الوصول إلى قلب البويضة والاستقرار بداخلها، زودك الله بكل ما تحتاجه لهذه الرحلة. سوط يدفعك للإمام من أجل الحركة، رأس يحوي على أداة لثقب الغشاء المحيط بالبويضة، جسيم طرفي يساعد بحمل الصبغيات … كل ما يلزمك قد تم تأمينه …
    اليوم أنت آدمي (في أحسن تقويم) مهمتك متمثلة في إعمار الأرض، ولقد زودك الله بكل ما تحتاجه لذلك … اكتشف ذاتك اذاً … وفجر إمكانياتك الكامنة في الاوقات الصعبة ..
    الآن .. بربك .. هل يستلزم أن تثق بنفسك : أن تترك الدعاء ؟؟؟ أم هل تعني الثقة بالنفس ان لا تعلق ارادتك على مشيئة الله (ولا تقل لشيء ان فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) ؟؟
    ان قلت نعم، فأنت فهمت الثقة بالنفس بطريقة خاطئة، انت تثق بان الله زودك بكل ما تحتاج اليه في رحلتك لاعمار الارض ثم تطلب منه تعالى وتدعوه ان يعينك على استخدام هذه القدرات .. وان يمددك بامداده تعالى، وان يتولى تدبير أمورك ومن هنا فأنت لا تقرر شيئا الا وتتبعه (إن شاء الله) .. الأمر بسيط للغاية. أعلم بأن المدربين يغالون أحيانا في شرح مفهوم الثقة بالنفس لأنهم تأثروا من المدربين الاجانب في تلقي هذا المفهوم، واعلم ان الثقة بالنفس ليست حالة يومية تعيشها، وتعبر عنها بمشيتك، او طريقتك بالكلام، الثقة بالنفس تظهر أكثر بالمواقف (ولي هنا وقفة أخرى ان شاء الله).
    الرضا عن النفس:
    تكلمت عن هذا الموضوع مسبقاً .. هنا.
    تقدير الذات :
    دعني أذكرك هنا بمرض خطير يدعى (الكبر)، مرض قلبي خطير (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)، والكبر كما قال صلى الله عليه وسلم (بطر الحق -رفضه- وغمط الناس) وغمط الناس يعني أن تحتقر الناس ويعني ان تزدري الناس .. وهنا أود أن أسألك .. هل من المعقول أن يكون احتقار الناس وعدم تقديرهم كبيرة من أكبر الكبائر التي تمنع صاحبها ان يدخل الجنة، ثم يكون غمط النفس واحتقارها وعدم تقديرها ممدوح شرعا ؟؟؟ بل ومندوب اليه أيضا – كما رأيت في بعض كتب المتصوفة – !!!
    هل يعقل أن يحرم عليك – وبقوة ومع التلويح بعدم دخول الجنة – أن تزدري الآخرين،بينما يباح لك ان تزدري نفسك أنت ؟؟
    من هنا ينبثق مفهوم (تقدير الذات) أن (تقدّر نفسك) أن تستشعر بقيمتها كمخلوق مكرم بأعلى ما يمكن، كمسلم متبع للدين القويم ..
    (تقدير الذات) دون الكبر طبعاً، فلأنك ترفض ان تزدري نفسك فأنت ترفض أن تزدري الآخرين (والعكس صحيح) ومن هنا يتلاشى (غمط الناس) … بقي (بطر الحق) أي رفضه والاستعلاء عليه فهذا لا يمت بصلة لـ (تقدير الذات) لا من قريب ولا من بعيد .. أن تقدر ذاتك يعني أيضا أن تستشعر بمجالات قوتها وضعفها .. ولأنك تدرك بأنك (جاهل) في الكثير الكثير وأن عقلك (لوحده) لا يمتلك الحقيقة الكاملة ولأنك تدرك بأن واحدا من البشر لا يمكنه ان يملك الادوات المعرفية الكاملة لذلك فانت لا (تبطر الحق) ..
    (تقدير الذات) أيضا شديد الصلة بمفهوم (الأمان الداخلي) .. أن تبتعد عن كل ما قدر حرمه الله عليك وان تحقق -جهد استطاعتك- ما أمرت به، وان تتزود من نوافل الخيرات .. من هنا ولان معيارك في (التقدير) رباني فأنت تشعر بتقدير الذات .. ليس المقصود (الرضا عن النفس) الذي يقعدك عن العمل الصالح ومجاهدة النفس .. لا أبدا .. وإلا فأنت ما قرأت هذه
    بإختصار : (الماديون) جعلوا قيمة الإنسان بما يملك من مادة، اما انت (أكرمكم عند الله اتقاكم) .. قيمتك من عملك الصالح ..
    حب الذات:
    مرة أخرى أقول .. أن تكون (أنانياً) فهذا يرتبط بـ (معاملتك للآخرين)، والتي تتجلى في ان تهتم بمنفعتك فقط وان كانت هذه المنفعة ضررا لهم، وتتجلى في عدم اهتمامك بما قد تلحقه بعض تصرفاتك او أفعالك بأذى لهم في سبيل ان تحقق غايتك …
    أن تكون (مغرورا) فهذا يرتبط بـ (معاملتك للآخرين) .. والتي تعني انك لن تشعر بقيمتك إلا إذا استعليت واستكبرت على الناس، فهذا يعني انك قيمتك لا تتولد من عملك الصالح، وانما من معايير أخرى .. اذا نحن هنا امام (غمط الناس) مجددا … بطريقة معاملتهم …
    أن (تحب ذاتك) فهذا يرتبط بـ (معاملتك لذاتك) .. لا علاقة للآخرين هنا، أن تثق بنفسك وان تقدرها وان ترضا عنها ستكون محصلته بلا شك أن (تحب نفسك) .. ان تخضع (سلوكك) للتقييم لا ان تقيم (نفسك) وتعيرها بسلوك خاطئ .. أن تثق بها وترضى عنها ولا تهنها … ولانك تحب نفسك فأنت ستتزود من الخيرات ساعيا نحو الفردوس الاعلى .. ولانك تحب نفسك فلن تضعها بمواضع المهانة …
    ان تحب نفسك … بشعور سوي ينتج عن ادراك سوي عميق للمفاهيم السابقة وممارستها عمليا ..
    نعم بالتاكيد:
    تأمل بعمق … لا تقرأ فقط .. اجلس وحيدا .. اعد القراءة مجددا .. تأمل .. ستدرك بأن ما سبق من مفاهيم لا يتعارض مطلقا (ولاعلاقة له أصلا) مع ان تعترف بفقرك لله وحاجتك له وضعفك ان لم يقويك .. (يا أيها الناس انتم الفقراء الى الله) .. ان تستشعر ضعفط وعجزك وافتقارك إلى الله .. أقول أن تستشعر ذالك فهذا الشعور يدفعك لأن ترتمي على اعتاب العبودية وان تتذلل لله في خلوتك … تناجيه (إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي) … تستخيره (فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم) … تطلب منه أن لا (يكلك إلى نفسك طرفة عين) بل يمدك بقدرته هو … ان تستبرأ من حولك وقوتك … وان تعترف بأنه من حول الله وقوته .. ان تتنكر انه علمك وان تعترف بأنه من علم الله ..وهذا كل ما تحتاجه للتوفيق
    نعم أن قوي بالله … عزيز بالله … ناجح بالله …
    فما علاقة (أن تثق بصنعة الله) بــ (أن لا تدعوه وترجوه) ؟؟؟!!
    وما علاقة (أن ترضى عن شكلك وجسمك والاسرة التي تعيش بها وعن نفسك كلها) بـ (أن لا تنهض لتحقيق المزيد في طاعتك لربك وعملك ووو) ؟؟؟!!!
    كل شيء منفصل : لا علاقة بـ (التكبر) و (العجب) و( الغرور) و(الانانية) بـــ (حب الذات) و(تقديرها) .. أبدا

هل وصلت رسالتي كما أريد ؟؟


comments powered by Disqus