الخدمات السحابية، فاست فود الجيل الجديد من مستهلكي التقنية
2019-03-24
شهدت الفترة بين عامي 2007 وَ 2009 ظهور معظم الخدمات السحابية؛ والتي رادت في مجالها بعد ذلك. فنتفلكس قدّمت بثها للأفلام عبر الإنترنت منتصف 2007، وهو العام نفسه الذي انطلقت فيه خدمة مزامنة الملفات الشهيرة دروب بوكس، وكذلك تطبيقَي حفظ المقالات لقرائتها لاحقًا بوكت وَ إنستابيبر. ولم تمضِ سوى أشهرٍ بسيطة حتى أُعلن عن إيفرنوت لحفظ الملاحظات، سبوتيفاي لسماع الموسيقى (كلاهما في 2008) وبِن بورد لحفظ الروابط في السحاب(2009).
في هذا الجزء الأوّل* أكتب عن كيف ولماذا وجدتُ نفسي أعتمد على هذه الخدمات لتنفيذ الحوسبة التي تلزمني. عندما أصبحت المهام، المواعيد، الملاحظات، المقالات، الروابط، الملفات، إدارة المصروف؛ وكل شيء آخر مُدارًا على السحاب. ثم لماذا توقفت عن استخدامها جميعًا. على أن أتابع لاحقًا الحديث عن الحلول والخدمات البديلة.
إيفرنوت يعد بأن يُشعرك بالتنظيم دون جهد
في مكانٍ ما.. على ما أذكر
النقطة التي استطاعت هذه الخدمات استغلالها لتحقيق نمو في الترويج والانتشار، هي أن كثيرين منا كانوا يتعاملون بفوضى (تزيد أو تنقص) مع المحتوى الرقمي الذي يستهلكونه.
في السابق مثلًا كنتُ أُبقي المقالات التي تُعجبني كصفحات HTML، موزّعة ضمن مجلدات تُمثّل أنواعها. مع الوقت تراكم المحتوى لديّ دون أن أتحصّل على فائدة مجديّة من الاحتفاظ به. آنذاك لم يكن بإمكاني - على سبيل المثال - إجراء بحث يشمل محتوى هذه المقالات جميعًا، لذا كنتُ أضطر أحيانًا إلى فتح العشرات منها والبحث في كل صفحة على حدى عن عبارة البحث التي أتذكرها، ولم يكن من النادر أن أضجر وأوقف عملية البحث دون الاستفادة من شيء احتفظتُ به بغرض مراجعته لاحقًا.
أيضًا؛ لم أكن أستطع تسجيل الملاحظات إلى جانب مقالٍ ما، لذا كنتُ أفعل ذلك في ملفاتٍ منفصلة تحمل صيغة Doc، والتي كانت تُصاب أحيانًا ببعض البرمجيات الخبيثة (على ويندوز) تمنع فتحها أو تمحو محتوياتها.
في المثل لم أكن أعرف فكرة الأوسمة وما تُقدّمه من إمكانية وسم مقالٍ ما بعدّة عناوين تُغطّي المواضيع المتنوعة التي يتناولها؛ بدلًا من حفظه بمجلداتٍ هرمية تُسطّح تصنيف المحتوى وتُصعّب الوصول إليه.
في ذلك الوقت جرّبتُ استخدام ملفات الأوفيس للاحتفاظ بمحتوى المقال نفسه عوضًا عن حفظ صفحات HTML في مكان والملاحظات حولها في مكانٍ آخر، هكذا كنتُ أنسخ محتوى المقال إلى ملف الوورد، ما كان يعني أحيانًا فقدان التنسيق الخاص به، أو الصور المرفقة معه، ما يجعلني مضطرًا لإعادة تطبيقها يدويًا، بيد أنّي في المقابل أصبحت قادرًا على تصفح المقال وتعليقاتي عليه معًا.
بعد فترةٍ قصيرة تعرّفت على إضافةٍ للمتصفح، تُتيح حفظ المقالات، تصنيفها، وكتابة التعليقات عليها. لكن سرعان ما بدأ المحتوى المرئي بالظهور مُضيفًا عائقًا أمام تخزينه بهذا الأسلوب. بالإضافة إلى أن استخدام جهازٍ أو متصفحٍ مختلف كان يعني فقدان الوصول لذلك المحتوى.
في المحصلة، جربت العديد من الطرق الذاتية لتنظيم الأنواع المختلفة من المحتوى الرقمي لديّ، وجميعها بدت مُتعبة، غير منظمة (رغم الجهد)، وغير مُجديّة كفاية.
في ذلك الوقت حصلتُ على أوّل جهاز أندرويد وتعرّفت من خلاله على عالمٍ جديد كليًا من إدارة المحتوى الرقمي.
عشرات التطبيقات المغرية بالإنجاز
البوابة الخضراء
في صيف عام 2013 تلقيتُ أوّل جهاز أندرويد كهدية، والذي قادني متجره إلى عالمٍ جديد كليًا من التطبيقات والخدمات السحابية.
إلقاء نظرة على التطبيقات الأكثر شيوعًا سيعرض أمامك على سبيل المثال برنامج إيفرنوت. يُوفّر المتجر لقطات شاشة تُوضّح الميزات الخاصة به والطريقة التي يقترحها إيفرنوت لتنظيم محتواك الرقمي: إلتقاط المحتوى من الويب بنقرة زرٍ واحدة، إضافة أوسمة لتسهيل الفلترة لاحقًا، إضافة ملاحظات قابلة للتنسيق، مزامنة المحتوى مع باقي أجهزتك، البحث الشامل، إمكانية إنشاء قوائم يمكن استعمالها لإدارة المهام إلخ
ما إن تُنشئ الحساب المجاني حتى تبدأ مباشرة باختبار تجربة جاهزة ومتكاملة تنتظر فقط أن تتعرف عليها وتشرع في استخدامها. وهذه برأيي النقطة التي سوّقت لإيفرنوت عند الكثير من المستخدمين.
على سبيل المثال، أتاح لي مبدأ الأوسمة استعراض المحتويات التي تحمل وسم "العمل"، ثم فلترتها مجددًا بالاعتماد على أوسمة أخرى مثل "علّة"، "ميزة جديدة"، "عاجل".
هاك تطبيقٌ آخر يُدعى BestEverTodoApp (اسم افتراضي بالطبع) يُقدّم لك امكانيات "مُدهشة" لتنظيم المواعيد، المهام، تُعقّب العادات، بل وحتى الاحتفاظ بالملفات المتعلقة بها. تستعرض التطبيق وتُعجب حقًا بالفكرة التي يستند إليها، وتجربة الاستخدام "العظيمة"، كل شيء يبدو مرتبًا ومُنظمًا وأنت فقط بحاجة إلى ملئ هذه القوائم الفارغة.
هكذا إذن بدا "نظامي" السابق أشبه بشريعة إنسان كان يدير نفسه في قرية منعزلة، حتى ضلّ طريقه ذات يوم، ووجد نفسه أمام واحدة من مدن هذا القرن.
عهد التنظيم الجديد
ما لاح مثاليًا في الأشهر الأولى بدأت تتكشف بعض مشاكله في الفترة التالية، فعدم دعم هذا التطبيق أو ذاك لإتجاه النصوص العربية (من اليمين إلى اليسار) ليس بالأمر الهيّن؛ إذ كان من المستحيل معرفة أين تبدأ المتون التي تحتوي على عبارات إنكليزية وأين تنتهي.
التطبيق يحتاج إلى إتصالٍ دائم بالإنترنت ليجري عملية بحث شاملة أو لتعمل بعض خصائصه.
عدم توفر عميلٍ لسطح مكتب لينكس لا يعني أنني لا أحبذ استخدام خدمةٍ ما من المتصفح، بل مشكلتي أكثر بفقدان المحتوى الذي أملكه كلما لم يكن لديّ إتصالٌ بالشبكة.
ذاك التطبيق الذي استمرّ بإضافة ميزات جديدة كل ثلاثة أشهر انتهى به المطاف متضخمًا، ثقيل الأداء، بطيء التنفيذ، وتبخرت وعود تجربة الأداء المميزة.
واجهة التطبيق مثقلة بالأدوات والأزرار أو يُعاد تصميمها مُجددًا مع كلّ فتور للمبيعات. ولا تنسَ الاختلافات المستمرة بأسلوب التنقّل، الإيماءات، واختصارات لوحة المفاتيح بين التطبيقات المختلفة.
التكامل المُتاح بين هذه الخدمات لا يلبي الحدّ الأدنى بعد. فعلى سبيل المثال حتى لو استعملت أوسمة مشتركة بين التطبيقات المختلفة، إلا أنه لن يكون بالإمكان استعراض أنواع المحتوى الموزعة بينها معًا حتى لو حملت الوسم نفسه.
التطبيق "باء" هو الحل
إذا لم يعجبك التطبيق "ألف" فعليك بتجربة "باء" حالًا، فهو يدعم العربية، يعمل دون اتصالٍ بالإنترنت ويُقدّم تكاملًا رهيبًا مع خدمات غوغل.
ستواجه في البداية معضلة نقل المحتوى بين هاتين الخدمتين، وستتمنى أن يكون كل الضائع هو بعض الوقت و الجهد فقط وليس محتوياتٍ منها، أوسمتها، أو بعض الخصائص المُضافة عليها (التنسيق مثلًا).
التطبيق باء يُروّج لنفسه بأنه "خفيف"، "بسيط"، و "موجز" ويدعم الميزات التي كنتُ تحتاج إليها في المقام الأوّل.
صورة مثالية للتطبيق باء، عادةً ما يغلب اللون الأبيض والتصميم التقليلي عليه
المشاكل السابقة سوف تختفي وتطفو أخرى جديدة. منها أن التطبيق سيبدو بسيطًا أكثر من اللزوم أو غير قابلٍ للتمديد عبر إضافات طرف ثالث، ما يفقدك خصائصًا ترغب بالتعامل معها.
ستقرأ مراجعة هنا أو هناك تُحذّرك من استعمال خدمة لا يكون كودها البرمجي مفتوح المصدر، وما يضيفه ذلك من مقالق حول طريقة تعامل هذه الخدمة مع بياناتك، التشفير المتبع، وتفاصيل أخرى عديدة.
> عدم القدرة على التحكم بسلوك التطبيق؛ سواءً عبر تنزيل إضافات طرف ثالث (extensibility) أو إمكانيات التخصيص والتعديل (customizability) الداخلية ستخلق مشاكل عديدة مع الوقت من الاستخدام.
في أيدٍ أمينة
لم تعد المخاوف المتعلقة بأسلوب إدارة الملفات، الملاحظات، ومجمل المحتوى الرقمي الذي تديره على السحاب مجرّد أفكارٍ عائمة لا رواسٍ لها. إذ يزداد الوعي العام تدريجيًا بمخاطر التخزين البعيد لبياناتٍ غير معمّاة طرفًا لطرف، لا سيما مع أخبار التسريبات والمشاكل التقنية التي تتعرض لها مختلف الشركات التقنية باستمرار.
الغارديان تعرض خبرًا لتسريب بيانات المستخدمين. لا جديد
أضف إلى ذلك، اعتماد العديد من الشركات على جمع بيانات مُستخدميها وبيعها إلى وكالات الإعلانات إما كنموذج ربحي وحيد أو لدعم خطة اشتراك مجانية تخدم ملايين المستعملين.
ليس فقط وكلاء الإعلانات. الحكومات، الأجهزة الاستخبارية، الهكرز، المتطفلين الرقميين.. كثيرون من يسعون لإلقاء نظرة على البيانات التي تحتفظ بها على السحاب، لغرضٍ أو لآخر.
فاست فود آخر
تروّج مطاعم وشركات الأكل الجاهز لمنتجاتها بعباراتٍ مُشابهة لتلك التي تستخدمها شركات التقنية اليوم: توفير ساعات من يومك، عدم بذل جهد، الاستمتاع بقضاء الوقت، بتكاليف بسيطة!
رغم ذلك، فإن الاعتماد الكبير على مثل هذه الحلول والخدمات لفترةٍ طويلة كفيلٌ بكشف قائمة ليست بالقليلة ولا بالهيّنة من سلبياتها ومشاكلها. فالنسب العالية من السكر، الأملاح، والدهون المشبعة تقف وراء قائمة طويلة من الأمراض.
بالمثل؛ يمكن القول أن الخدمات السحابية أصبحت فاست فود آخر للجيل الجديد من مستهلكي التقنية اليوم، أولئك الذين يبحثون عن حلول سريعة وجاهزة لمشاكل الحوسبة لديهم، لكن ينتهي بهم المطاف إلى مالا يرغبون.
—
*هذه التدوينة كُتبت كمشاركة في المسابقة التي أطلقها الصديق عبدالله المهيري في مدونته صفحات صغيرة. فضّلت نشرها على أجزاء كي لا تبدو طويلةً للغاية أنشر اليوم جزءها الأوّل، حول ما لم أعد أستخدمه من خدمات وتطبيقات.
حقوق الصورة البارزة.