الانحياز الى الجماهير
2012-06-27
تمتاز الثورة عن غيرها من أشكال التغيير السياسي في المجتمع (كالانقلاب العسكري أو التآكل الذاتي) أنها شعبية جماهيرية، تقوم بها الجماهير المقموعة الكادحة التي أفقرتها سياسات الدولة وأنهكتها سنين القمع والحرمان، ترى هذه الجماهير -أخيرًا- أن عداوتها لبعضها مصطنعة وأن آلامها واحدة وتطلعاتها مشتركة، فتتعاون بشكل جماعي لإزاحة كابوس الاستبداد والاستعباد.
ويدرك المستبدون ضرورة وقوع هذه الحقيقة – الثورة، فيخافون من الجماهير أعظم خوف، لذا تعتمد سياساتهم بشكل أساسي على محاربة هذه الجماهير، بعدّة أساليب.
لعل من أشدها تأثيرًا وفتكًا على المدى البعيد: استحقار الجماهير وإهانتهم، ويجند لذلك الخطباء والأدباء والعلماء ورجال الدين وغيرهم، فتكثر في الخطاب العام كلمات مثل: العامة، العوام، الدهماء، الجهلة، الأميّون .. وتأتي هذه المفردات في سياق التحقير، فينحاز خطيب المنبر للسلطة على حساب الناس، فهو يتوعد من على منبره من يسرق شيئًا لإسكات جوعه بالويل والثبور ونار الجحيم، ثم يدعو للسلطان بالنعيم المقيم وطول العمر والرخاء والتوفيق!. إنه يعمى أن يرى السلطان وقد سرق البلاد كلها، وأحاج الناس إلى الحرام مكرهين، ولكنه لا يتساهل أبدًا مع سرقة كيلو رز أو «تنكة» سمنة، لأشخاص يبحثون عما يقيم وأدهم.
وهو يهدد رجل الخمرة والانحلال بالإقامة الدائمة في جهنم، ثم يدعو لظل الله في الأرض -الحاكم العادل- بطول البقاء.. ويطالب الناس بالعودة إلى أنفسهم لإصلاحها حتى يرفع الله عنهم الغلاء والبلاء والشدة، وسبحان الله هل اضطر الناس إلى الحرام إلا من الغلاء الذي سببه هذا المستبد الملعون!.
هذا الخطاب ينتِج نظرة متدنية للنفس المذنبة الخطاءة السارقة الزانية التي تأكل الحرام وتغفل عن الله، ويرتاح الحاكم وهو يرعى هؤلاء الذين دمر الاستحقار نفسياتهم، فما عادوا يشعرون بأهليتهم للتغير أو الحياة الكريمة.
ولا يقتصر هذا الخطاب على علماء السلاطين! فقط بتغيير الألفاظ يمكننا استخراج الخطاب الليبرالي المحقّر للجماهير «الجاهلة» التي لا يحق لها أن تطلب الحرية والديمقراطية وهي تمارس «الظلام وتعيش في الظلاميات» .. وهكذا.
لذلك تأتي الأديان -دومًا- لتصطف إلى جانب الفقراء، المستضعفين في الأرض، وتعطي تحيزًا مسبقًا لهم ولقضاياهم المصيرية الاستراتجية، وكلنا نعلم أن الآية الكريمة {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}، نزلت عندما طلب الملأ القرشي من محمد عليه الصلاة والسلام أن يطرد الفقراء من مجلسه (بلالًا، وصهيبًا، وخبابًا وغيرهم)، فالنخبة الحاكمة وكل من يروج لها يتحدثون بنفس المنطق {ما نراك اتّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}.
وهذا الاصطفاف والتحيز المسبق من قبل الأنبياء والمرسلين إلى جانب هذه الفئة (والدفاع عن قضاياها وتبني همومها والتكلم بلغة تفهمها) هو سرّ هام من أسرار نجاح دعوتهم، وتحقق رسالتهم على الأرض واقعًا معاشًا، لذا توجد الكثير من النصوص الدينية التي تدعو إلى هذا الانحياز للجماهير المسحوقة: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متسضعف، لو أقسم على الله لأبره»، و «ربَّ أشعث مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» .. ويحملنا وعاظ السلاطين على فهم هذه النصوص وأمثالها كما شرحنا مسبقًا، فهذا الأشعث الذي أفقره الحاكم وسرق ماله وقوت يومه وعمل على إجهاله وتهميشه يكاد ينقلب قوة حقيقة يقلب الموازين ويقوم بالثورات ويطيح بالطغاة، مبديًا قدرة أسطورية على تحقيق حريته وكرامته مستمدًا عونه وقوته من الله «لو أقسم على الله لأبره» .. تنقلب هذه الصورة إلى صورة الصوفي، ثقافة السلبية والانسحابية الممدوحة في الخطاب الديني الرسمي.
اليوم نحن أمام فرصة تاريخية لإنجاز تغيير عظيم .. لكن على الفئة المثقفة الواعية من مختلف التنويعات أن تعلن انحيازها المسبق للجماهير، وتبنيها لقضاياها وهمومها، وأن يقترب خطابها من هذه الفئة ويلامس آمالها ويعمل لصحالها فقط .. يقول عليه الصلاة والسلام «ابغوني ضعفائكم ، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم»
نشرت كمساهمة في جريدة عنب بلدي