ثوابت الفردوس الامريكي وثوابتنا نحن
2012-03-27
كان ذلك منذ سنوات، وكانت أزمتي الفكرية الحقيقة آنذاك، وأظنها هي كذلك عند الكثيرين ..
فالبنسبة الى مسلم ملتزم كان يهمني طبعًا أن أتحقق بهويتي الإسلامية، وأن أتمثّل الفكر التراثي وقيمه الغيبية والأخلاقية (طبعًا دون الإنتباه الى تناقضات داخلية في هذا التراث)، وكانت مكتبة المنزل مصدرًا لتحقيق مثل هذا الإهتمام.
في المقابل كان يهمني أيضًا تحقيق فاعليتي الشخصية والاجتماعية، وتمثّل قيم النجاح والتفوق، وكانت كتب جرير المترجمة وغيرها مما يندرج تحت تصنيف ‘تطوير الذات’، الوجبة المغرية لتحقيق هذه الفاعلية، وكانت تلك الكتب مدعومة بقوة النجاح الكبير الذي حققه الغرب وانتصاراته المتتابعة ، وهي كتب مستمدة من الفكر الغربي وتعبّر من منظومة فكرية وقيمية مغايرة.
ولم يكن من العسير الشعور بشيء من التناقض الخفي، شيء لم يكن يمكنني إدراكه بشكل واضح، لكنني كنت أشعر به في داخلي، كنت أحس بأنه عليّ أن أقرر إما أن أنحاز للتراث وما فيه أو للفكر الغربي وما يحويه..
كان من الممكن أن يكون الناتج النهائي لهذه الأزمة التي مررت بها أن أنخرض في تيار بات معروفًا على الساحة، وهو تيار ‘أسلمة’ القيم الغربية (الأمريكية تحديدًا) عن طريق مسحة هنا وتعديل طفيف هناك .. الحديث الذي صار بديهيًا اليوم حول أن قيم النجاح والتفوق الأمريكية تلك، هي قيم إسلامية جدًا على الرغم من أن أصحابها لا يعرفون ذلك! نعم، إنها قيم الإسلام الحقيقي التي أضعناها نحن ووجدوها هم، وبنوا عليها حضارتهم التي انتصرت علينا..
أقول بأن ذلك كان ممكنًا، أن أنجر وراء التوفيق التلفيقي الذي خضع له الفكر الأمريكي عن طريق صبغه بشعارات إسلامية لتمريره دون شعور بالتناقض، ودون عسر هضم .. كان ممكنًا لو لم أقرأ كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد للدكتور أحمد خيري العمري.
‘لم يصح الغربيون ذات يوم في القرون الوسطى ليقرروا أن عليهم احترام الوقت وتقدير العمل والحرية الشخصية؛ الأمر أعقد وأطول وأصعب من ذلك كله. لقد مروا بمخاض طويل، وبدرب طويل، وبتجارب معقدة، وتفاعلات متسلسلة وأساسية وثانوية، نتج عن هذا كله في النهاية ما نرى من إيجابيات ومن سلبيات.
ومن ضمن النتائج كانت تلك القيم السلوكية التي تروج على أنها هي لب الحضارة المنتصرة، لكنها في الواقع كانت ناتجًا من نتائج التفاعل لا التفاعل نفسه، لم تكن هي التي حركت هذا التفاعل ولم تكن أصلا عنصرًا أساسيًا من عناصره، لكنها نتجت عنه.
وأنا هنا لا أحاول التشكيك بأصالة هذه القيم، أو بإيجابيتها وإنما أحاول أن أنبه وأشير إلى أن هذه القيم ليست منفصلة ولا مجردة عن قيم أخرى، تختفي تحت هذا السطح، وتكون هي الأساس والتفاعل التي نتجت عنه هذه القيم السلوكية.
فلا يمكننا أن نتصور أن نفوز بتلك القيم السلوكية دون أن نهضم ما ورائها من قيم محركة .. لأن القيم لا تباع بعبوة منفصلة وإنما تؤخذ جملة’
وهذا الاقتباس من مقدمة المحور الثاني في الكتاب.
يبحث الكتاب إذًا وينقّب عن القيم المحركة للسلوكيات الغربية والتي تعتبر اليوم أساس النجاح ومنطلق تحقيق فعّالية حضارية ، أي أنه يبحث عن الأسس والثوابت الفكرية التي قامت عليها الحضارة الأمريكية والتي أفرزت فيما أفرزت هذه القيم والسلوكيات.
وينظر فيما إذا كانت هذه الثوابت الفكرية تتفق أو تتعارض مع ما لدينا من ثوابت، وفي حال وجدنا أننا نقف على طرفي نقيض، فهذا يعني وجوب التحرز من ‘الإسلام الأمريكي’، وبناء سلوكيات تتفق مع ثوابتنا الفكرية.
والفكرة التي يرمي من وارئها الكاتب ويريد الوصول إليها، أن مواجهة المشروع الأمريكي في منطقتنا بإقتصاره على المواجهة العسكرية المسلحة (الكتاب كتب إبان الغزو الأمريكي للعراق)، لا يمكنه أن يحقق شيئًا لأنه لا يقدّم مشروعًا حضاريًا بديلًا، بل الطريق الصحيح فيما يرى المؤلف هو في استنباط ثوابتنا الفكرية ثم تحويلها الى واقعٍ معاش أي بناء مجتمع قائم عليها، يقدم حلًا حقيقيًا لكل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الغربية (والعربية أيضًا)، وعندها بقوة الواقع الحقيقي والثوابت الفكرية المستمدة من القرآن يمكننا أن ننافس المشروع الأمريكي، دون الإستغناء طبعًا عن السلاح لحماية مثل هذا المشروع المنافس.
وكعرض سريع لأفكار الكتاب، يعرض العمري تجربة تأسيس المجتمع الأمريكي (أو ما يسميه الفردوس المستعار)، فيقول بأن خلفية كولومبس مكتشف أمريكا، والهدف الذي خرج من أجله (إكتشاف طرق أخرى للتجارة البحرية لتحقيق ربح أفضل) ثم عثوره على أمريكا التي وصفها بأنها ‘جنة عدن’، حيث الطقس المعتدل والمحاصيل الوفيرة والثروات الطبيعية وغيرها .. قاد الملايين للهجرة بحثًا عن حياة ماديّة أفضل، وقد طبعت هذه التجربة الحضارة الأمريكية كلها، حيث كانت ‘المادية’ هي حجر الأساس في هذا الفردوس.
كانت المادة هي من دفعت أولئك الملايين للهجرة إلى أمريكا، ثم نشأت فيما بعد الفلسفة البراغماتية والداروينية الاجتماعية (على يد وليم جميس وهربرت سبنسر) والتي أدلجت تلك النزعة المادية عند الإنسان وجعلتها اللبنة الأولى في بناءه والمعيار الوحيد في تقييمه لكل الاشياء من حوله.
بينما بنيت حضارتنا الأولى على قيمة ‘الغيب’، فكانت الهجرة الأولى في تاريخ الإسلام والتي جعلت بدءًا لتأريخه هي لأجل تحقيق ‘فكرة’ في بناء فردوس بديل قائم على أسس ومعايير أخرى.
الإسلام لا يلغي المادة، لكنه يركز على أنها قمة الجبل الجليدي فقط، بينما الجزء الأكبر من هذا الجبل هو الجزء الغاطس، وهو ما لا تشاهده العين لكن تؤمن به البصيرة : الغيب.
الثابت الثاني الذي بنيت عليه حضارة الفردوس المستعار هو الفردية، والفردية هو الإسم الفلسفي لنزعة ‘الأنانية’ التي أدلجتها أمريكا على يد رالف والدو ايمرسون وهنري ديفيد ثورو، بعد هذه الأدلجة أصبحت الأنانية شيء طبيعي وفطري، فهي المحرك للفرد الأمريكي في سعيه لتحقيق ذاته، تقول لك الفردية : أنت أهم شخص في حياتك، لا تبالي بالآخرين، ابني نجاحك ولو على حسابهم، لا تفكر بالفقراء فهم ليسوا فقرائك (كما يقول ايمرسون)، أنت تملك حريتك الشخصية (الفردية) ولا يحق لأحد التدخل بشأنك.
إنها حياتك أنت، تحمل مسؤليتها، ما يحقق لك النفع فهو الصواب بالنسبة لك (النفع في حضارة الفردوس هو نفع مادي فردي آني دومًا)، ومالا يحقق لك النفع فهو خاطئ، لا يعمل ..
وتشكل الصلاة ثابتنا الثاني، بإعتبارها شعيرة تعبر عن مخزون قيمي عميق (قزمته المؤسسة الدينية طبعًا)، يعبّر هذا المخزون عن علاقة الأفراد مع بعضهم في المجتمع وفق نظرية الأواني المستطرقة الاجتماعية، حيث زيادة منسوب احد افراد المجتمع او نقصانه يؤثر على البقية.
انها نداء زكريا {ربي لا تذرني فردا}، ليست لأجل الولد، بقدر ما هي نداء لكي ينطلق من سجن فرديته وحبه لذاته نحو مشاركة فرد أخر في الحياة والقيم والمفاهيم.
وهذا ما يعبر عن كون الكبائر (الذنوب الكبيرة اسلاميا) هي ذنوب اجتماعية، تهشم روابط المجتمع وتفتته وتمرضه حتى الموت
الثابت الثالث هو الاقتصاد الحر والرابع هو الاستهلاك بلا حدود، والخامس هي العيش في اللحظة الآنية فقط.
وتقابلها في ديننا الزكاة كنظام للتدخل لتقليص الفجوة بين طبقات المجتمع، والصيام ككابح لنزعة الانسان الاستهلاكية المدمرة له وللمجتمع، والحج كشعيرة معبأة بقيم الآخرة كحاسة تاريخية حاكمة على فكر الإنسان وسلوكه.
يطول عرض هذه الأفكار وأكتفي بالقدر الذي عرضته.
الكتاب يستحق خمس نجمات، ويمكنني اعتباره دستوري الحضاري