عندما تأخّر النصر.. كيف تزوّر عقلية التخلف السبب الحقيقي
2012-12-14
واحدٌ من الأسئلة التي كثيرًا ما تجول في بالنا، وتثير تساؤلات وشكوكًا عدّة، وتناولها مشايخ الثورة بالعديد من خطبهم العامّة أو توجياتهم الخاصّة هو سؤال:
لماذا تأخّر النصر ؟
وللمؤسسة التقليدية (التي ينتمي لها معظم المشايخ المؤيدون للثورة) أرشيفًا كبيرًا من الإرث المكتوب، الذي يمكن العودة إليه للبحث عن الأجوبة كلما استجد حادث وسؤال جديد.
لكن في حالة سؤالنا هذا فلا داعي لكثير بحثٍ وتنقيب، فالأجوبة جاهزة، وهي تدور في معظمها حول ضرورة «العودة إلى الله»، والتوبة عن الذنوب والمعاصي التي تسود في المجتمع، من مثل الغيبة والنميمة والسرقة والتقصير في الصلاة، والإفراط في حرمات الله، وعدم محبتنا لبعض، ونومنا عن صلاة الفجر، وهجرنا للقرآن، وربما تضاف بعض العناصر إلى هذه القائمة.
وهكذا تظهر على المنابر المسافة الشاسعة بين ما يجب أن نكون عليه، كي نكون أهلًا للنصر، وما هي عليه حالنا بالفعل، فما يلبث خطيب الجمعة أن يستدرك بقوله: اللهم لسنا أهلًا للنصر، لكنك أهل الرحمة وأهل المغفرة!
لكن لو تساءلنا مالذي كان سببًا لهزيمة المسلمين في أحُد؟ أليس خرقهم للخطّة العسكريّة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لماذا خسر الحسين حفيد رسول الله وسيد شباب أهل الجنّة في معركته أمام يزيد الفاسق الماجن؟ لماذا كان بعض ملوك بني أميّة أو بني العبّاس ممن عُرف عنهم المجون واللهو المنتشر ضمن قصورهم البازخة يحقّقون إنتصاراتٍ عسكريّة ساحقة فيما نسميه اليوم الفتوحات الإسلامية؟
حقيقة فإننا نعاني من خلط في الخريطة المفاهيميّة، فالذي يرتبط بالنصر العسكري هو الخطّة العسكريّة المحكمة وما يتعلق ويرتبط بها (من قريب أو بعيد).
إنّ الذي أخّر لنا النصر بالدرجة الأولى هو غياب خطّة عسكريّة راشدة عند كتائب الجيش الحر المقاتلة على الأرض، إن هذه الكتائب بقيت لفترة طويلةٍ جدًا (ولربما ما زالت) تعاني من غياب رؤية واضحة، وخطط راشدة، مما أخّر النصر لأشهر طويلة جدًا، وهذا ليس لومها بشكل مباشر، فمعظم من حمل السلاح هم من المدنيين ممن لم يتلقوا أيّ تدريبٍ أو دراسة سابقة، فالأمر يتعلق بغياب القيادة العسكرية الراشدة فهي المسؤولة عن التخطيط والتدريب.
ومن أسباب تأخير النصر، تفشي ظاهرة المخربين والوشاة، التي لم تترك رجلا يعمل في الحراك السلمي أو العسكري إلا وفشت عنه، وأوصلت أخبار تحركاته للسلطات الأسديّة، وأعدّت له الكمائن، وكانت له بالمرصاد.
ولتشرذم الكتائب المسلحة، الذي وصل أحيانًا إلى حد النزاعات! دور بالطبع في تأخير النصر الذي ننشده.
هذه بعض أهم أسباب تأخر النصر، ولا أدري بأي منطق يُربط النصر العسكري بالدرجة الأولى مع العادات الإجتماعيّة (التي لا خلاف بإنعكاس آثارها على مجريات المواجهات، لكن ليس بالدرجة التي تجعلنا نحمّلها ما لا تحتمل).
ثم إن الذي «يطالب» الناس بالتغيير، لأنهم عاشوا «أهوال» القصف والتهجير، ومصاعب التهجير والنزوح، ومصائب الموت والإصابة، لا يدرك أن التغيير الاجتماعي لا يأتي من ذلك، فالقرآن يقول عن الكفار الذين عاشوا أهوال يوم القيامة «ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه»، فالتغيير لا يأتي من ذلك، بل يحتاج إلى دراسة وبحث عن أسباب هذه الأمراض الاجتماعيّة ومعالجتها، وخلق جو من الحريّة والأمان والمساواة، والحراك الثقافي والحضاري.
إن التغيير يحتاج إلى سنوات طويلة جدًا، ولا يمكن أن يتم في أجواء استثنائيّة كالتي نمرّ بها.
هناك جواب آخر سمعته من قبل شباب ملتزم ينتمون إلى جناح ديني آخر، يختلف الجواب، لكن يبقى المضمون والجوهر واحد: تغييب الأسباب الحقيقيّة وفصلها عن مسبباتها. ويدور الجواب حول ضلالنا في عدم مناداتنا بإقامة دولة الخلافة الإسلاميّة، وتخلينا عن تصورنا الإسلامي لشكل الدولة الخاص بنا، ثم تأييدنا لمجلس وطني “علماني”، بل ويرأسه اليوم رجل نصراني، ثم طلبنا من قوى الكفر والباطل أن تعيينا في معركتنا… هذه برأيهم هي أهم الأسباب التي أخر الله بها النصر عنّا!
هذا التشويه الذي أصاب مبدأ السببيّة في الفكر العربي عمره مئات السنوات، وربما يعتبر الإمام الغزالي في كتابه الإحياء أوّل من وجه ضربة شك قويّة لهذا المبدأ العقلي، حيث يقول “.إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن نفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب والشبع والأكل والاحتراق ولقاء النار والنور وطلوع الشمس.. وهلمّ جرّا كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت.”
لقد ساهمت هذه النظرة الضبابية المشككة في تعطيل مبدأ السببيّة بعد تراكم الشروح والتفسيرات والتأويلات لكلام الغزالي، وذهب رد ابن رشد المعروف بقوله “إن من رَفَعَ الأسباب فقد رفع العقل” مذهب الريح.
فماذا يقول القرآن؟ يعتمد الخطاب القرآني كثيرًا على أسلوب القصص للتربية النفسيّة والعقليّة، ولهذا فقد ساق قصة ذي القرنين، إمام العلم وملك الأرض في زمانه، يقول تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً}
لقد أتاه الله من كل شيء سببًا، أعطاه علم كل شيء كما يقول المفسّرون، فماذا كان منه ؟ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} لقد اتبّع الأسباب ليحقق ما حقق، ومنه على سبيل المثال طلب القوم أن يحميهم من يأجوج ومأجوج.. فاتخذ لذلك الأسباب الحقيقيّة العلميّة {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}
هكذا كان الإستعداد، وبهذا كانت النجاة، بالحديد والنحاس والنار، بالقوة والعلم والإستعداد، بهذه الآيات البسيطة غرس القرآن مبدأ السببية في وجدان المسلم، فلنتخلص من رواسب عهود الانحطاط والتخلف، ولنقدّر جهود الناس العظيمة في الصمود والتضحية والبذل والتقديم، وصبرهم على كل ما عاشوه من مصاعب وتحديات جسام، بدل من أن نجلدهم كل يوم ونحملهم أسباب تأخير النصر لأشياء لن يقدروا على تغييرها بالوصفة التي نريد!
*أصل التدوينة مقالين كتبتهما لجريدة عنب بلدي