على إشارة المرور، قصة مجزرة حماة
2012-02-02
روى المشهد لي أبي .. كان في سيارته عند إشارة المرور، حيث حلّت الفوضى والزحام الشديدين مكان عناصر شرطة المرور التي لم تعد تزاول عملها في تنظيم السير بأمرٍ من أجهزة الأمن، كعقوبة لنا على طلبنا للحرية، كما لم نعد نشاهد عمّال النظافة وغيرهم الكثير ..
الجميع واقف ينتظر الجميع! فشدة الفوضى لم تعد تتيح لأحد بالتحرّك، الكل ينتظر، حتى أتى شاب عشريني تبدو عليه سيماء الثقافة، كان يحمل بيده عددًا من الكتب، وضعها جانبًا ووقف مكان شرطي المرور وأخذ يوجه السير، كان الناس ينتظرون أي أحد كي ينظم مسيرهم فلم يجد صعوبة في طاعتهم له، رويدًا رويدًا تلاشت الفوضى والزحام، كان الشب بارعًا حقًا فقط تمكّن من حل أزمة مرورية خانقة في وسط البلد، ثم راح ينظم تدفّق السيارات بعملٍ تطوعيّ وإتقان عجيب ..
أكملت القصة عمّتي التي تقطن هناك، أحدهم بلّغ ‘السلطات’ بأن أحدًا ما تجرّأ ونظّم سير المرور، قدمت إلى تلك النقطة ثلاث دوريات للأمن من ثلاث محاور! حاصرت الشاب، ثم نزل عناصر الغدر وأشبعوه ضربًا مبرحًا، وأدموه … تركوه على قارعة الطريق يتأوّه ثم ذهبوا ..
تبيّن فيما بعد أن الشب هو طالب هندسة ميكانيك، وهو الأوّل على دفعته أيضًا!
قصّة ثانية لمجموعة من الشباب تجرّأوا على تنظيف أحد الشوارع الذي صار مكبّا للنفايات بعدما غابت عنه البلدية لأشهر، فكان جزاؤهم الاعتقال ..
لماذا ارتكب الأسد الأب مجزرة دموية في حماة ؟
إذا كان لأجل التخلص من مسلحي الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، فهو كان بإمكانه فعل ذلك دون قصف المنازل والمساجد والمدارس وقتل عشرات اﻵلاف ممن يعرف برائتهم مسبقا، وإعتقال أضعاف ذلك ورميهم في السجون ..
سيقولون هي سياسة البطش والتصفية التي اتبعها حافظ (يلعن روحو) مع كل مخالفيه بل حتى مع أصدقائه ليتفرّد هو وعائلته في حكم سورية .. لكن سؤالي هو لماذا فعل ذلك ؟
تمثّل قصة الشاب الذي يدرس الميكانيك قصّة الشاب السوري الطموح، الذي يرغب في أن يخدم بلده، وهو يتصادف دوما أن يملك من المؤهلات والمهارات ما يمكّنه نظريا من فعل ذلك، لكنه دوما يصطدم بحاجز أن الحكومة تعرقّل مثل هذه الأعمال!
كم منّا يعلم مبدعين تم إبعادهم عن سوريا فقط لكونهم مبدعين، عن طريق سياسة ‘التطفيش’ الرسمية التي تتبعها الدولة .. كم مخترع همّش هنا بل واعتقل بسبب اختراعه (نعم لايوجد خطأ في الجملة السابقة وأعرف شخصيا أكثر من قصة!) كم من صاحب دكتورا أراد فتح جامعة علمية بمعنى الكلمة فمنع من ذلك وضيّق عليه حتى خرج (أحدهم ابن الحارة التي أسكن فيها) .. وأبدع في دولة أجنبية ما ..
قصة ذلك الشاب الذي أراد تنظيم حركة السير تتعارض مع مبدا أساسي في الدولة السورية (ما منمشيها ولا منخلي حتى يمشيها) لا نطورها ولا ندع أحدًا يفعل ذلك ..
قصة البلد هي قصة إشارة مرور خانقة تمتنع الدولة عن تنظيم حركتها وتقتل كل من يفعل ذلك! هي قصة القمامة التي لا تجمعها البلدية ويسجن من يفعل ذلك، هي قصة المخترعات التي لا ترعاها الدولة فتموت ولا تسمح لأحد بأن يرعاها، والمحصلة النهائية هي أننا نعود إلى الوراء منذ خمسين عامًا ..
الإخوان المسلمون كان واجبًا التخلص منهم سواء حملوا السلاح أم لم يحملوا، فهذا النظام لا يحتمل أن يرى أحدا يعمل لصالح المجتمع، ويخدمه ويرتقي به ..
يجب على البلد أن تتوقف … لن ندعها تتقدم ولن نسمح لأحد أن يفعل ذلك .. والتوقف نتيجته القهقرى وراءًا ..
تم تضخيم حجم الطلعية المقاتلة أكثر مما تحتمل القصة الواقعية، البعض يقول بأنها سيطرت على حماة بالكامل ولم يعد هناك وسيلة لإستعادة السيطرة على المدينة سوى قصفها بالمدفعية والطيران، وهذا الكلام غير صحيح، فنحن نشهد المدن أو البلدات التي تخرج فعلا عن طوق النظام يمكن استعادة السيطرة عليها بفعل عسكري أقل مما قام به الأسد الأب آنذاك، فتطويق المنطقة بالآليات يمنع وصول الذخيرة للمقاتلين وينسحبون بعد أيام قليلة …
لكن لا بد من المبالغة في حجم الطليعة وقوتها حتى يتسنى للنظام المبالغة في رده الدموي : لن نسمح لأحد بأن يحرّك البلد … ويتضح من قانون 49 الخاص بإعدام من ينتمي للإخوان المسلمين، أن الهدف هو استئصالهم لا حل مشكلة تسلّح بعضهم ..
ثم أغلقت كل الأبواب : لا أحزاب خاصة، لا جامعات خاصة، لا قنوات بث خاصة، لا مجلات خاصة … لا شيء، إلا ماكان متفقا مع سياسة الدولة : لا شيء يجب أن يرتقي بالبلد ..
ثلاثون عامًا مرّت، ليس صحيح أن النظام لم يتساهل فيها مع أي معارض سياسي ، وأن مصير هذا الأخير إما التضيق والسجن وإما الهرب،أو أنه كان يمنع نمو أي تيار إسلامي، بل هو لم يتساهل مع أي سوري طموح يرغب في أن ينهض ببلده ويرتقي : سياسيا كان أم علميا أم ثقافيا أم دينيا ..
ثلاثون عاما، بدأت بمجزرة حماة، وسحق الإخوان، وإيقاف نمو الحركة الدينية في سوريا، ثم الثقافية والفنيّة والعلمية وكل جوانب الحياة الأخرى …
لكن بعون الله وبتضحيات ثورتنا ستصبح هذه السياسة شيئًا من الماضي، في سوريا القادمة الدولة مسؤولة عن تنمية المجمتمع والنهوض به وهي تشجع وتساعد كل من يرغب في فعل ذلك أيضًا …
وحتى بلوغ ذلك … يمكننا أن ننظر إلى حماة كأحد أكثر من دفع ثمن هذه السياسة دمًا بينما دفعته بقية المحافظات سجنا أوهجرة .. ونقول لها : عذرا حماة .. سامحينا