برمجيات حرّة، ولكن!... عن إدارة القيود الرقمية
2017-09-28
في هذه التدوينة نقلتُ خبرًا تقنيًا عن اعتماد DRM كمواصفة معيارية للويب، حيث لم أقرأ عن الخبر في أيٍ من المواقع التقنية العربية التي أعرفها، ثم ألحقته برأيي الشخصي. إن كنتَ مهتمًا في معرفة ما هو الـ DRM فاقرأ نصف التدوينة الأولى، وإن كنتَ مهتمًا بالدفاع عن الحقوق والحريات الرقميّة فأدعوك لمتابعتها.
الخبر
في الثامن عشر من الشهر الجاري قرّرت رابطة الشبكة العالمية W3C اعتماد DRM/EME كمواصفة معيارية للويب، رغم اعتراض العشرات من الأعضاء، حيث حسمت الرابطة قرارها بتصويت - هو الأول على الإطلاق في تاريخها - لصالح اعتماد DRM/EME بنسبة 58.4%.
التصويت هو خطوة غير مسبوقة في تاريخ الرابطة التي تعتمد دومًا على التوفيق والتسوية بين الآراء للخروج بإجماع كامل على قراراتها. المدير التنفيذي لـ W3C صرّح أنه لا يعتقد بإمكانية التوصل إلى حل توفيقي بشأن DRM لذا كان لابدّ من هذه الخطوة.
وكانت مؤسسة الجبهة الإلكترونية EEF قد استقالت من عضوية الرابطة احتجاجًا على اعتماد الأخيرة لمعيار DRM/EME كمعيار ويب قياسي والذي يتطلب بالضرورة تضمين أجزاء مغلقة المصدر ضمن نظام بيئي ecosystem يُفترض به أن يكون مفتوح المصدر وشفاف. بالإضافة إلى أنه يعزّز فكرة أن الشركات الكبرى هي من ستتحكم بمستخدمي الويب (من خلال التحكم بسلوك متصفحاتهم) بدلًا من تمكين المستخدمين.
وكانت W3C قد رفضت حلًا وسطًا تقدّمت فيه EEF وآخرون دون مناقشة، كما امتنعت عن كشف البيانات المتعلقة بعملية التصويت التي شارك فيها 185 عضوًا فقط (من أصل 463 عضو !)
إدارة القيود الرقمية
يُعبّر اختصار DRM عن “Digital rights management” أو إدارة الحقوق الرقمية، وهي عبارة عن مجموعة تقنيات تهدف إلى تقييد استخدام العتاد والأعمال؛ المملوكة proprietary والمحمية بموجب قوانين حقوق التأليف والنشر copyrighted.
بعبارة أبسط، الـ DRM هي التقنية التي تمنع المُستخدم من تحميل الفيديو من Netflix أو تحميل الأغاني من Spotify، نفس الشيء فيما يتعلق بالكتب المحمية بواسطة DRM (مثل الكتب الإلكترونية المقيّدة من أمازون) والمواد المحمية من متجر iTunes وغيرها من الأمثلة. ما هو ممنوع وما هو مسموح هي حدود يضعها الناشر.
مجموعات المدافعين عن الحريات الرقمية (مثل EFF و FSF وغيرهما) يرون أن الـ DRM ما هي إلا إدارة للقيود الرقمية “Digital Restrictions Management” والتي قد تحوّل الإنترنت إلى عالم مقيد محدود الإمكانيات للغاية لا يشبه ما نعرفه اليوم.
هل تريدون سرقة جهود الآخرين؟
البعض يعتقد أن رفض الـ DRM بشكلها وصيغتها الحالية يأتي من أشخاص يحصلون على الفيديو والمواد الفكرية الأخرى من مواقع مشاركة التورنت، أو يعتمدون في عملهم على سرقة المقالات copy-paste.
المتضرّر الأكبر من الـ DRM هم الأشخاص الذين يستهلكون تلك المواد من قنواتها الأصلية، أي الذي يدفع ثمنًا للفيلم ولا يتمكن من تشغيله على مُشغّل الميديا المُفضّل لديه (يوجد مئة سبب لذلك)، ولا يمكنه تنزيل الفيلم لمشاهدته عندما يكون خارج الاتصال. هو الشخص الذي يشتري أغنية ولا يستطيع تشغيلها على جهاز آخر يملكه في نفس المنزل، أو يشتري كتاب ولا يستطيع مشاركته لزوجته وأولاده!
هذا لا يتعلق فقط بـ DRM بل بمستقبل الويب ككل
الأشخاص الذين يعتمدون على التورنت والحصول المجاني على المواد قد يواجهون مشكلة مؤقتة إلى حين ابتكار وسائل جديدة للالتفاف على هذه التقنيات، بل قد يجدون إمكانيات جديدة بها!
مُجددًا القضية لا ترتبط بالمال، بل بالحقوق والحريات التي أمكلها تجاه ما أدفع ثمنه، وهي حقوق كانت حتى سنوات قليلة مضت بدهيات يتمتع بها الجميع.
لماذا لا تريدون للآخرين أن يحموا أعمالهم؟
بغض النظر أن الأعمال الرقمية نشأت وازدهرت قبل وجود تقنيات الـ DRM، يمكن حماية تلك الأعمال بالعديد من التقنيات التي لا تهدد أمان المستخدم ولا تقيد حرياته.
حتى أنت يا فيرفكس؟
لكن أليست ما قامت به W3C من إعلان DRM/EME كمواصفة قياسية للويب، جاء بعد تضمينه في جميع المتصفحات الشهيرة Chrome, Edge, Opera, Safari بل وحتى Firefox، فلماذا نُلقي باللوم على مؤسسة تحاول معايرة هذه التقنيات وتوحيدها؟
لو تغاضينا عن اعتماد أسلوب التصويت، ورفض مُقترح EFF، وحقيقة أنه لم يُشارك بالتصويت سوى أقل من نصف أعضاء رابطة W3C، فاللوم الحقيقي لا يتوجه لهم، فما هم إلا هيئة (ذات كيان هلامي)، تحاول معايرة ما تعتمده المتصفحات من خلال النقاش - عادةً - وإيجاد صيغ تفاهم.
حسنًا..
بالعودة إلى أيار / مايو 2014 وقراءة الإعلان الذي نشرته موزيلا في ذلك الوقت يتضح الموقف الصعب الذي وجدو أنفسهم به، فالمتصفحات المنافسة والتي تملك ما يقارب 80% من حصة السوق كانت قد دعمت DRM بحيث تُتيح لمستخدميها مشاهدة نتفليكس وارتياد المنصات الأخرى التي لم تعد تعمل سوى على تلك المتصفحات .
الآن ما هي الخيارات أمام موزيلا؟ إما أن تخسر حصة إضافية من السوق (مستخدمي فيرفكس الذين يرتادون منصات لا تعمل سوى مع DRM) أو تقوم بإضافة دعم DRM غير مفعّل تلقائيًا. لكن مَن وضع موزيلا أمام هذين الخيارين أصلا؟ كروم وإيدج من جهة، وضغط الناشرين من جهة أخرى هو من جعل ذلك أمرًا مفروضًا بحكم الواقع. لقد تمّ تغيير السوق وفرض معايير جديدة على المنافسين.
وبالمناسبة، هذا ليس بالأمر السيء، هذه هي إحدى الآليات التي يعمل بها السوق أينما وجد. فعندما قدّم فيرفكس مطلع انطلاقته متصفحًا أكثر أمنا لمستخدميه، موفرًا تجربة تصفح بلا إعلانات منبثقة استطاع اكتساح السوق، ومن ثم فُرضت هذه المعايير على جميع المنافسين. حيث لم يعد بالإمكان جذب المستخدمين لمنتجات أخرى لا تقدم ذلك.
“هذا هو الكود، افعل به ما تشاء”
كمجتمع مساند للحقوق الرقمية يمكننا فعل ما هو أبعد من توقيع العرائض ومراسلة الشركات. ما يُمكنه إحداث فارق هو أن يعود فيرفكس للاستحواذ على حصّة سوقية تُمكّنه من اتخاذ القرارات بدلًا من اتباعها. فمَن يسود في السوق يمكنه أن يفرض معاييره.
وهنا لب المشكلة مع متصفح كروميوم! كثيرون يستخدمون كروميوم باعتباره بديلًا حرًا ومفتوح المصدر لكروم (وهو كذلك بالفعل!!) آخرون يستخدمون كروم نفسه باعتباره كروميوم مع بعض الإضافات المُغلقة، من غوغل، مثل دعم فلاش، DRM، الكودك اللازم لتشغيل الميديا إلخ لكن الحقيقة أن هذا المنتج يُعزز ايكو سيستم لا يعود بالخير على مجتمع البرمجيات الحرّة. فلا يكفي أن يُرخص البرنامج برخصة تقبلها FSF ليتبنى مبادئ وقيم حركة البرمجيات الحرّة. وفي هذا كتب ريتشارد ستالمن مقالًا بعنوان “لماذا لا تفي المصادر المفتوحة بغرض البرمجيات الحرة” قال فيه “القيم المختلفة قد تقود إلى نهايات متشابهة…ولكن ليس دائما”.
ليس المقصود هنا أن التطبيق “مفتوح المصدر” مُختلف عن “الحرّ”، فالوصفان ينطبقان معًا على أي برمجية تحمل رخصة تقبلها الـ FSF ولكن الشاهد القيم التي يحملها المشروع، هل يقف المشروع إلى جانب الحقوق والحريات الرقميّة أم يسعى إلى بناء إيكوسيستم يستفيد من الميزات التقنية لفتح المصدر لبناء منتج قد يُقيد الحريّات في نهاية المطاف؟
“نموذج كروم بشكل أساسي يقول “هذا هو كود المتصفح. افعل به ما تشاء”. إنهم لا يملكون نفس ثقافة المصدر المفتوح التي لدى الآخرين”. مطور مساهم في كروميوم
استخدام برمجيات مغلقة المصدر في مجتمع البرمجيات الحرّة ومفتوحة المصدر يفتح نقاشًا طويلًا وشائكًا لستُ هنا للخوض فيه، ولكن استخدام برمجيات “مفتوحة المصدر” بينما تسيء (في المحصلة) إلى المشروع ككل هو ما يجب الانتباه له.
لماذا تريدون من الشركات أن تتحول لجميعات خيرية؟
القضية لا ترتبط بالسعر والأرباح مجددًا، قبل الـ DRM الأعمال التجارية الرقمية كانت تحقق رواجًا وربحًا، لكن الاتجاه المتزايد لتقييد حرية المستخدمين ربما يُعزز الاستحواذ على أسواق كاملة ومراكمة مليارات غير مسبوقة لكنه في النهاية يدمر النموذج الحالي للويب، بحيث تصبح أجهزتنا تعمل كما يمليه الناشرون الكبار، لا بشكل يُمكننا ويفتح المزيد من الآفاق المتاحة والتي تنتظر إطلاقها.
لكن أليس من حق الشركات أن تفعل ما بوسعها كي تربح قدر ما تستطيع؟
لا أريد مناقشة قضايا سياسية وقانونية الآن حول الحجم الذي ينبغي أن يُوقف عنده تمدّد شركة ما، فأنا لا أطرح هنا كيف على الشركات أن تكون وأيٌ طريقٍ يجب أن تسلك وإنما كيف نكون أكثر انسجامًا مع القضايا والمبادئ التي نقتنع بها. (لماذا يجب أن نهتم بالحقوق والحريات الرقمية؟).
بالبيدق.. كش ملك!
الذي نستطيع القيام به يُمكنه أن يُغيّر المعادلة:
- الانتقال لاستخدام البرمجيات الحرّة ومفتوحة المصدر 100%
- استخدام فيرفكس على الفور، والذي تلقى تحديثات مهمة خلال العام الماضي حسّنت كثيرًا من أدائه.
- شراء الكتب والمواد الفكرية غير المحمية بإدارة القيود الرقمية DRM-free
- التوقف عن استهلاك المواد التي تفرض إدارة القيود الرقمية قدر الامكان
حقوق الصورة البارزة مصنفة تحت CC0 Creative Commons حقوق صورة فيرفكس مصنفة تحت CC BY-SA 2.0